14/12/2025
تقاریر 45 قراءة
هل تتحرّك الصين لحماية أميركا اللاتينية من واشنطن؟

الاشراق
الاشراق | متابعة.
أصدرت الصين مؤخّراً ورقة سياسية تعنى بالعلاقة مع أميركا اللاتينية والكاريبي. هي ليست الورقة السياسية الأولى، فقد أصدرت الصين سابقاً ورقتين بشأن أميركا اللاتينية أعوام 2008 و2016، ولكنّ توقيت الورقة يتزامن مع توترات عالية هذه المرة، وتهديد أميركي واضح بالعدوان على فنزويلا.
هنالك العديد من التصريحات الواردة في الورقة السياسية لافتة للانتباه:
1. في المقدّمة تقول الورقة إنّ هنالك "تغيّراً كبيراً في ميزان القوى الدولي"، وبهذا تؤشّر الورقة إلى تراجع القوة الأميركية في العالم، ولا سيّما أنها تتحدّث في المقدّمة نفسها عن تنامي دول الجنوب العالمي "Global South".
2. تُعارض الورقة بوضوح ما أسمته "البلطجة الأحادية"، وعلى الرغم من عدم تسمية الولايات المتحدة بشكل صريح، إلّا أنّ توقيت إصدار الورقة والتوتر في الكاريبي يؤدّيان إلى هذا المقصد بالذات.
3. تقول الورقة إنّ الصين قامت بإنجازات كبيرة على المستوى الداخلي، ورفع المستوى المعيشي للصينيين، وإنها جاهزة للتركيز على الملفات الدولية؛ خطة التنمية العالمية، خطة الأمن العالمي، مبادرة الحوكمة العالمية، مبادرة الحزام والطريق. وفي هذا إشارة لنوايا تحرّك أكبر خارج الحدود، وكثيراً ما وُجّهت انتقادات إلى الصين بسبب اختصار التحرّك الخارجي على المستوى التجاري.
4. ما يجري في الكاريبي وأميركا اللاتينية هو فرع من فروع المواجهة بين واشنطن وبكّين، فالأولى تريد الانقلاب على شروط اللعبة الاقتصادية التي رسمتها هي، والثانية تريد الحفاظ على شروط شبكات التوريد، وأسس منظّمة التجارة العالمية، بعد أن تمكنّت من قلب الطاولة على الولايات المتحدة من داخل شروط اللعبة الاقتصادية، وليس من خارجها (كما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي). وهنا تقول الورقة إنّ الصين تعارض محاولات فكّ الارتباط بالمنظومة الاقتصادية، وترفض محاولات "إعادة اختراع العجلة".
5. الورقة في الشقّ الأغلب تتضمّن عروضاً صينية لدول أميركا اللاتينية والكاريبي، والعروض تقريباً لم تستثنِ أيّ قطاع اقتصادي، يمكن أن يخطر في البال.
· التعاون في الإدارة المالية والقروض، ولا سيما أنّ مؤسسات دول أميركا اللاتينية الحديثة، تأسس جزء منها على قاعدة مديونيّات عالية، ولا سيما في ظلّ فترات اليمين، الذي استمرّ مدة طويلة في عدد من الدول قبل وصول اليسار إلى السلطة، في فنزويلا وكولومبيا مثلاً.
· تعزيز الاستثمار والتبادل باستخدام العملات المحلية، الأمر الذي يعني خطوة جديدة في مسار المشروع الصيني لاستبدال الدولار، والذي يعني أيضاً تحدّي العقوبات الأميركية المفروضة على عدد من دول أميركا اللاتينية.
· التركيز على القطاع الزراعي، الذي يعتبر أساسياً في دول القارة. وهذا يعني استبدال العديد من التقنيات الأميركية التي كانت مستخدمة لعقود طويلة. وفي الواقع سبّبت هذه التقنيات الضرر في العديد من المنتجات الزراعية اللاتينية، وعلى رأسها الذُرة.
· التركيز على الجانب التكنولوجي، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وصولاً إلى التعاون في تكنولوجيا الفضاء. الصين تعرض على دول أميركا اللاتينية استخدام نظام بيدو، الذي يستبدل نظام GPS، الأمر الذي لو تمّ، سوف يقلّل من إمكانات التجسس الأميركية ونشاط الـ CIA الذي هدّد به ترامب.
· الحديث عن تعاون بحري، ومحاربة الإرهاب وتجارة المخدرّات؛ مما يعني (لو تمّ) اصطدام أكيد بالعدوان العسكري الأميركي الموجود في المساحة البحرية نفسها.
· المناخ ومواجهة الكوارث (تحديداً الفيضانات والأعاصير)، التي كثيراً ما استثمرت فيها واشنطن عبر منظّمات "الإغاثة" الخاصة بها.
· تركيز الورقة على التعاون الثقافي، وتعليم اللغة الصينية. نحن هنا نتحدّث عن شعوب لم تنتشر فيها اللغة الإنكليزية بشكل واسع، على الرغم من القرب الجغرافي مع الولايات المتحدة، وعلى الرغم من اعتبار عدد من المناطق في القارة اللاتينية إلى يومنا هذا جزءاً من "مستعمرات ما وراء البحار". اللغة الإسبانية هي اللغة ذات الانتشار الأوسع في القارة، وإلى جانبها عدد من اللغات المحلية للسكان الأصليين. دخول اللغة الصينية على الخط في إطار توطيد العلاقات قد يكون أمراً ممكناً.
هذه الورقة في إطارها العامّ هي تصريح سياسي مهمّ للصين، تفوح منها رائحة التحدّي لسياسات واشنطن، وإن كان ذلك في جوارها الجغرافي القريب، وكأنّ ذلك ردّ على سياسات واشنطن في ملف تايوان، ولا سيّما أنّ الورقة الصينية ثمّنت موقف دول أميركا اللاتينية من مبدأ "صين واحدة".
ولكن، ومع كلّ ذلك، ما زلنا أمام حالة حبر على ورق، ولم يشهد العالم إلى اللحظة دوراً صينياً في لجم الجنون العسكري الأميركي في الميدان (ربّما كانت التجربة الأوضح هي الأيام القتالية المعدودة بين الهند وباكستان، التي كشفت مبدئياً عن فعّالية واضحة للسلاح الصيني).
يفضّل الصينيون الحلول الناعمة والدبلوماسية والمتدرّجة، ولذلك، بعد أن أُشبعت الورقة بعروض التعاون الاقتصادي، الذي كان عنوانه إمكانية استبدال كامل للوجود الأميركي، تأتي الورقة الصينية على ذكر الجانب الأمني؛ الذي تضمّن عروض التبادل العسكري للمستشارين والتدريب ونقل التكنولوجيا العسكرية والتعاون السيبراني.
بعد أن تحوّلت الصين إلى مصنع العالم والقوة الاقتصادية الأولى فيه، أصبحت مهماتها في الحفاظ على مصالحها أكثر تعقيداً، فالاتّساع يستجلب المزيد من المهمّات. مع الإصرار الأميركي على سياسة العدوان العسكري، قد تجد الصين نفسها أمام قاعدة ثنائية لا ينفع معها الانتظار، إما الانخراط السريع أو خسارة جزء من المصالح.
التقارير حول كميّة النفط الذي يتدفّق بأسعار تفضيليّة من فنزويلا إلى الصين متباينة نسبياً، ولكنها تجمع على تعاظم هذا التدفّق خلال الفترات الماضية، من 500 ألف برميل يومياً خلال 2024، إلى أكثر من 700 ألف برميل يومياً في أواخر 2024 إلى أكثر من 900 ألف برميل يومياً في 2025.
تتنوّع المصادر أيضاً بشأن أكبر مصدّري النفط إلى الصين؛ على سبيل المثال تقول مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية (FDD)، أنه خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2025، كانت إيران هي المصدّر الأكبر إلى الصين بما يقارب مليوناً و900 ألف برميل يومياً (23.3%) من مجموع الاستيراد الصيني خلال ذلك الشهر، وتأتي بعدها السعودية بما يقارب مليوناً و600 ألف برميل يومياً (19.8%)، وبعدها العراق وروسيا، ومن ثم تأتي فنزويلا.
قد لا تكون فنزويلا المصدّر الأكبر للنفط بالنسبة للصين، ولكنّ اقتصاداً ينمو بتسارع الاقتصاد الصيني، ويعتمد الصناعة كأساس للنمو سيكون بحاجة إلى كلّ قطرة نفط. ومن جهة أخرى، فإنّ الصين تراقب حرب واشنطن على اقتصادات الطاقة في العالم؛ هي حرب مباشرة على إيران، مواجهة أطلسية لسنوات ضدّ روسيا، ضغط سياسي على موارد دول الخليج.
الصين تدرك أنّ حروب واشنطن في العالم، لا تسبّب للصين "أضراراً جانبية"، بل قد تكون على رأس لائحة المستهدفين في الحرب... فهل تتحرّك بكّين، أقلّه من خلال الإسراع بإبرام اتفاقيات أمنية واضحة مع دول أميركا اللاتينية؟ حينها يصبح استهداف سفن شحن السلاح الصيني إلى القارة استهدافاً للصين نفسها. فهل تفكّ الصين قيود الحكمة الصينية "قطرة قطرة يشقّ الماءُ الصخرَ"؟
الآراء والتوصيفات المذكورة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
محمد فرج - باحث سياسي وإعلامي