إمبراطورية الهيمنة وحضارتها هي العلّة، والكيان معلول. تقدّمهما وتراجعهما واحد، والفوز العظيم حتميّ وليس ببعيد
ما قامت به المقاومة وطوفان الأقصى هو عمل استراتيجي، بطولي واستثنائي قلب الموازين والسياسات، ليس في فلسطين والمنطقة فحسب، بل في العالم أجمع أساساً.
أولاً: البيئة المشتركة للحضارة الغربية والحركة الصهيونية
قوة الصهيونية وضعفها لا تكمن في الكيان بالأساس، بل في أميركا وأوروبا. وإذا برهنت الوقائع عن تراجع بنياني ووجودي في تلك المراكز، أي في المنابع الأساسية والبنى المغذّية والحاضنة التي أنشأت الكيان وأسست له كجبهة أمامية لحماية مصالحها، فإنّ ذلك سيعني انقطاع الحبل السرّي للكيان. ليتحوّل الكيان من جنين حافظ ومكاثر لنوع الأم، إلى حالة قد تكون قاتلة. من هنا تبرز أهمية المتابعة المستمرة لمرتكزات الحضارة الغربية ومآلاتها.
إنّ الدمار والتضحيات الكبيرة التي تقدّمها شعوبنا ومقاومتنا لا تعني انتصار العدو، بل هي ثمن طبيعي دفعته كلّ الشعوب التي قاومت الاحتلال والاستعمار. وكلما توسّع الدمار والقتل كلما عنى ذلك انتشار المقاومة وبأسها وقوتها وحتمية انتصارها. وإنّ خطأ البعض أنهم يضعون في الميزان معايير عن الأرباح والخسائر، وكأنّ الحرب هي بين دولتين أو جيشين، وليس بين دولة وجيش من جهة، ومقاومة وشعب من جهة أخرى.
فما دام العدو عاجزاً عن تحقيق أهدافه التي وضعها لحربه، وما دام تصدّي الشعب والمقاومة قائماً بالأشكال التي تناسبهما، فإنّ النتيجة ستكون كنتيجة أيّ حرب تحرير خاضتها الشعوب، أي النصر. وإنّ مغالاة نتنياهو في إعطاء نفسه صورة المنتصر خلافاً لرأي أغلب القادة العسكريين والسياسيين في منظومته، ما هو سوى غطاء لعجزه. فيلجأ للاغتيالات والهجمات الجوية والبربوغندا والمشاريع السياسية.
هكذا يعمل أيّ رجل أعمال وهو يشهد تراجع شركته فيبالغ من ادّعاءات تحقيق الأرباح، أو هكذا تعمل الدول والجيوش التي تنهار قواتها على الجبهات رغم صور الانتصارات على الشاشات. هذا الخداع سيستمر لفترة ثم سيفضح نفسه بنفسه. فإن لم يعالج الكيان ومن يدعمه التراجع البنياني والتاريخي، فإنّ الضعف والتراجع سيكون هو سمة الكيان الآن وفي المراحل المقبلة. وإنّ هذا التراجع يتلازم مع تراجع كامل المنظومة الغربية التي أنشأت الكيان وما زالت تدعمه وتغذّيه. فلا يصح النقاش حول وضع الكيان من دون النقاش حول وضع نظام الهيمنة أو الحضارة الغربية أو النظام الاستعماري ككلّ.
ثانياً: الحضارة الغربية نتيجة تلاقي عدة عوامل
لن نغوص بالتاريخ من أجل التاريخ بل لفهم مرتكزات انتصار الغرب على بقية الأمم وقدرته على تأسيس الكيان في قلب منطقتنا. ثم لنرى تراجعه والآثار المباشرة لذلك علينا:
أ- الحضارة الغربية هي نتاج مزيج من المباني التنظيمية والقانونية والعلمية والإنسانية والفردية والكونيّة والتفوقيّة والاستعلائية والأنوية المتضادّة التي منحت الغرب قوة لم تمتلكها أية حضارة أخرى. هذه التناقضات داخل البناء الموحّد، من عقلانية وانفلات، ودين وعلمانية، وقانون وشريعة الغاب، والأنا والشمول، والنظام العامّ والفردية، ونظام داخلي واستباحة خارجية، وبقية المتناقضات هي التي جعلت علمانية الغرب مغذّية لعلمانية الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، وتأسيس الكيان في 1948. أو صهينة المسيحية عبر مشترك العهد القديم والأساطير التلمودية لليهودية. واستلال مفاهيم من الديانات السماوية لتركيب مشروع الوحدة الإبراهيمية.
وتشير نظرة سريعة للتاريخ كيف قدّمت اليونان العقل كأداة. وقدّمت روما القانون والتنظيم كإطار. وأضافت المسيحية المؤسسية المبرّر العقائدي الكوني والحماسة التبشيرية. وأضافت الرأسمالية المحرّك الاقتصادي الجشع والحاجة الهيكلية للتوسّع. ووفّر العلم الحديث والتقنية الأدوات المادية المتفوّقة لفعل ذلك. وقدّمت الأيديولوجيا العنصرية العلمانية التبرير الأخلاقي الزائف الذي سمح للأوروبي بقمع الآخر مع احتفاظه بصورة الذات "المتحضّرة".
ب- بحسب تصوّرنا نستطيع رؤية تطوّر الحضارة الغربية عبر عاملين، داخلي وخارجي:
العوامل الداخلية: وهي مزيج من الموروث التاريخي لمفاهيم وممارسات وتقاليد وأنظمة من أثينا وروما واختلاطها بالمسيحية في القرن الرابع الهجري. يقول إنجلز: "من دون الرقّ لم يكن بالإمكان تصوّر قيام الإمبراطورية الرومانية، وإنه من دون الأسس التي أرستها الهلنستية (أثينا) والإمبراطورية الرومانية لا وجود لأوروبا الحديثة".
1- اليونان (أثينا): البحث عن المبادئ الأولى والأصول وفهم طبيعة الكون (كالماء عند طاليس أو الذرات عند ديموقريطس). والعقلانية والمنطق والعبودية (أرسطو) الذي أصبح أساس التفكير الفلسفي والعلمي بنسخته المتسلّطة. والمثالية والنظرية المجرّدة (أفلاطون). والإنسان مركز الكون (سقراط).
والتنوّع والجدل (الأفلاطونية، الأرسطية، الرواقية، الأبيقورية، الشكوكية، الكليبة). والنظام السياسي (المدينة/الدولة–polis) وتعدّد نماذج الحكم كديمقراطية أثينا، ومشاركة المواطنين الأحرار. والأوليغاركية في حكم الفئات في إسبارطة، إلخ). والمواطنة كمفهوم محوري مقصور على فئة محدّدة تستثني النساء والعبيد والأجانب.
2- الرومان (روما): الطابع العملي والتطبيقي لحياة جيدة لمجتمع الأحرار (من دون العبيد) بدلاً من الفلسفة والبحث النظري. فلسفة الأخلاق الموجّهة للفرد الحرّ، كالرواقية وضبط النفس وقبول القدر. والأبيقورية والسعي للذة الخالية من الألم. التركيز على القانون والنظام والعدالة والمساواة وفكرة العقد دائماً بين الأحرار. فالعبيد والأرقّاء هم سلع تباع وتشترى، وإنّ محور حياتهم يدور حول سيدهم ومالكهم. التطوّر من الجمهورية إلى الإمبراطورية. النفعية والواقعية السياسية والبراغماتية.
3- أهم الموروثات من تطوّرات المسيحية: أنّنا كمسلمين نقدّس النبي عيسى عليه السلام ونعدّه نبياً من أنبياء الله. لكننا لا نؤمن بالتجسيد Incarnation الذي برز بعد أربعة قرون من حياة المسيح عليه السلام، وتحويل الرب لإنسان في شخص يسوع المسيح عليه السلام.
إذ بعد اعتماد المسيحية كدين رسمي للإمبراطورية الرومانية في 380م تحت حكم ثيودوسيوس الأول. وأصبحت عقيدة التجسيد مركزية في الهوية الغربية الناشئة، وذلك في مجمع "نيقية (325م) ومجمع القسطنطينية (381م) اللذين رسما الإطار اللاهوتي لهذه العقيدة.
فكانت نويات (من نواة) الهيمنة والاستعمار القديم التي مكّنت من التوسّع الغربي. محدثة التحوّلات الإنثروبولوجية العميقة في الغرب ما قبل الحقبة الاستعمارية:
1- الثورة اللاهوتية-الميتافيزيقية: اللاهوت المسيحي المتأخّر: فصل الإله عن الطبيعة (الله متعال وليس متجلّياً في الطبيعة).
2- انزياح المركزية: تحوّل الإنسان من جزء من الكون إلى سيد عليه (أعطيتكم سلطة على كلّ الأرض).
3- إزالة القداسة عن الطبيعة: تحوّل العالم من كائن مقدّس إلى موضوع للسيطرة والاستغلال.
4- التحوّل من مفهوم الذات والآخر: تأسيس الذات عبر نفي الآخر.
5- بناء الهوية الأوروبية عبر تعريف "البربري" و"الهمجي" ليكون نقيضاً ومرآة للذات المتعالية المتكاملة.
6- الثنائيات المتعارضة: عقل/جسد. ثقافة/طبيعة. متحضّر/همجي.
7- تفكيك الأنساق الأخلاقية المطلقة: تحويل الأخلاقي لأدوات نسبية تخدم المصالح.
8- الثورة في مفهوم الزمن والتاريخ: الزمن الخطّي التصاعدي: مقابل الزمن الدوري أو الحلزوني أو الزمن الأسطوري في حضارات أخرى.
9- فكرة التقدّم: الإيمان بإمكانية وتحقيق التقدّم المادي والاجتماعي اللانهائي وبناء الجنة على الأرض في دياره ليبني في ديار الآخرين جهنم. استعمار المستقبل: وتحويل المستقبل إلى مجال لتخطيط الهيمنة. وهو ما غرس التأثيرات العميقة في الحضارة الغربية، كدمج المطلق الإلهي والنسبي البشري بطريقة غير مسبوقة.
وهو ما ساهم في تطوّر مفهوم الفرد والإرادة الحرّة. وعكس فكرة التجسّد عبر تصوير السيد المسيح في أيقونات وفنون. وشجّع على تمجيد الجسد البشري كوعاء ممكن للإلهي. وقدّس فكرة التواضع والخدمة وتطوّر مفاهيم الكرامة الإنسانية والعدالة وخلق إشكالية حول علاقة السلطة الروحية بالسلطة الزمنية. وخلق جدلاً مستمراً بين التمجيد الإلهي والتجربة البشرية.
فشكّلت فكرة التجسّد المسيحية ـــــ رغم جذورها في سياقات سابقة ـــــ تحوّلاً جذرياً أصبح أحد الأسس التي بنيت عليها الحضارة الغربية بكلّ إنجازاتها وتناقضاتها. بما في ذلك إعطاء دوافع مباشرة وغير مباشرة للخروج إلى مجاهيل الكرة الأرضية ولانتصار النظام الرأسمالي متمثّلاً بالآتي: الانتقال من تجسيد الإله إلى تجسيد القيمة في الأشياء.
فالتقت الفردية المسيحية والفردية الرأسمالية لتحدث تحوّلاً جذرياً في البنية. ولتنتج الصنمية Fetishism كنوع من "التجسيد المعكوس". فأصبحت منتجات البشر من السلع والأسواق والمؤسسات المالية بمثابة قوى غريبة مستقلة تهيمن على خالقها. والانتقال من "خلاص الفرد" إلى "هيمنة النظام" والخلاص عن طريق السوق والاستهلاك التي تغطي علاقات الاستغلال.
فبرزت الرأسمالية كحضارة، والآخر كبربري ووحشي. وأصبحت المسيحية الإمبريالية نفسها الحاملة للحقيقة المطلقة (الإله المتجسّد) مما أعطاها شرعيّة "تهذيب" و"تنصير" الآخر من أمم وشعوب، وهو التبرير الاستعماري الأبرز. وهكذا تُقدّم الرأسمالية العالمية نفسها كقدر تاريخي لا مفرّ منه وكـ "نهاية التاريخ"، ليبقى "إنسانها الأخير" هو الإنسان المتخلّف البربري لما قبل الليبرالية والحداثة "end of history, and the last man “The. هذا كلّه قاد لاغتراب الإنسان عبر عدة مراحل:
1-التشيّيء وتحوّله إلى شيء (سلعة).
2-التحوّل إلى آلة (الثورة الصناعية).
3-التحوّل إلى وهم وخيال.
مما ولّد نتائج قادت وتقود لتدمير الذات والطبيعة والفطرة، والنزوع المتهالك للاستهلاك المفرط، والرفاه المجنون، وتلبية الغرائز واللذات والجنس المدمّر للنوع، والمخدّرات بأنواعها، والكلف المقابلة لذلك. عبر الدمار والتلوّث البيئي، (منذ عام 1850 إلى 2020، إنّ الدول الغنية ـــــ 12% من سكان العالم ـــــ مسؤولة عن 50% من الانحباس الحراري وانبعاثات الوقود الأحفوري والصناعة، مما أدّى إلى ارتفاع درجة حرارة جو الأرض (1.1) درجة مئوية مسبّبة كوارث بيئية لجميع الأمم).
وأسلحة الدمار الشامل (السلاح الكيميائي والأسلحة النووية –هيروشيما وناغازاكي)، أو الحروب الكونية والإبادة الجماعية، (القارات الجديدة وآسيا وأفريقيا، وآخرها وليس أخيرها غزة) إلخ.
فلم يعد النظام بحاجة لأن يتعامل الإنسان مع إنسان آخر. أو أن يمتلك إنساناً آخر (نظام العبودية المكلف). فالعلاقة ستصنع إنساناً يبدو حراً قانوناً، وما سيُستثمر ويُستغلّ ويؤسر هو قوة جسده (القوى العاملة). أو غرائزه ولذاته (التجارة بالجنس، الأنوثة والذكورة، نوعه الجيني، إلخ)، أو أوهامه وأحلامه وأحاسيسه والمتاجرة بها في العالم الافتراضي بمختلف الأشكال. أو عقل الإنسان وذكاؤه والسعي لتصنيعه، واستخدامه للابتكارات والأجهزة والمنظومات الدقيقة والخلّابة، ليجني قلّة من الأشخاص والشركات مليارات الدولارات ـــــ يومياً أحياناً ـــــ وهم يجلسون خلف مكاتبهم، أو في قلاعهم الماجنة، ولتجعل الإنسان بالمقابل، مقيّداً بالتقنية، من دون أيّ تحكّم بها.
العوامل الخارجية: الاستعمار والاستيلاء على أراضي الآخرين والاستيطان فيها أسس الرأسمالية وليس العكس. فما تمتّع به الغرب وسمح له بخروجه هو أمر جديد لم يمتلكه أحد غيره. صحيح أنّ الغرب هو الوريث الطبيعي لحضارات الإغريق والرومان العريقة. لكنه تخلّى عنهما لقرون طويلة. وهو ما عرف بالقرون الوسطى أو القرون المظلمة. وما أعاد الدماء إلى عروقه هو التطوّرات التي حصلت في داخل المسيحية، إضافة إلى الدور الذي أدّاه المسلمون في الحفاظ على التراث الأوروبي ونقله إليهم لاحقاً.
فالواقع الغربي في نهاية القرن الخامس عشر لم يرتكز على مقوّمات قوة حقيقية متفوّقة على غيرها، كان الغرب يمتلكها. بل استند إلى نوع جديد من الاستعمار لم يعرفه العالم من قبل. إنه ليس الاحتلال فقط، وليس غزو أراضي الآخرين أو استعباد شعوبها فقط، بل هو نظام يستبدل العلاقات بين الأمم والحضارات من علاقات أمم وحضارات متجاورة JUXTAPOSITION إلى نظام جديد متحد متكامل شامل يصهر الجميع في بوتقة، يقف هو على رأسها.
فما ذكرناه من مركبات دخلت على بنيته الداخلية سمحت له باجتماع وتوحيد عناصر متناقضة تجمع بين رقي الدعوة وتأليه الذات. مقابل انحطاط الوسائل وشيطنة الآخرين، مجتمعة في إطار وحدة جامعة. وهي عناصر تفرّد بها ومكّنته من السيطرة على العالم الجديد عبر الاستيطان وتهجير أو إبادة السكان الأصليين (القارات والأراضي الجديدة)، أو باستعباد واستعمار بقيّة القارات (آسيا وأفريقيا) مباشرة أو غير مباشرة عبر نظام رأسمالي متوحّش، وربطه بهيكل أو هياكل متكاملة يمسك خيوطها.
ثالثاً: الضرورة والصدفة، أو الحتمية والاحتمال:
يقسّم المؤرّخون أحداث التاريخ عبر مبانٍ مختلفة. فبعضهم يقول بالضرورة والصدفة، وغيرهم بالحتمية التاريخية والاستثناء، وغيرهم بالدورات الحضارية، وآخرون بالخط المستقيم والخطوط الحلزونية والدائرية. وتصوّرنا هو أنّ الحضارة الغربية تمثّل صدفة وليس ضرورة تاريخية. فهي لم تكن حتميّة الوقوع، خلافاً لما يدّعيه أنصارها اليوم من أنها هي التاريخ الحقيقي، وكلّ ما عداها هو خارج التاريخ. وإنّ انتصارها كما بدا في تسعينيات القرن الماضي صوّر على أنه نهاية التاريخ ونهاية الإنسان الأخير المتفلسف والمضحّي والباحث عن الذات ليحلّ مكانه إنسان اللذات والذات والفردية المطلقة.
فالقرون الوسطى (القرن الخامس إلى الخامس عشر) شهدت تفاعل العوامل الموروثة والداخلية التي جرّبت قوتها وتماسكها في الحروب الصليبية في القرنين الحادي عشر والثالث عشر. فحقّقت نجاحات مهمّة، أعقبتها هزائم كبيرة، لحين سقوط الأندلس وخروج حملات "كريستوف كولومبس" في نهايات القرن الخامس عشر. متجهة إلى أمم أقوى وأغنى من أوروبا آنذاك، فوصل صدفة إلى أميركا. فاستعمرها ونهب ثرواتها وأخضع شعوبها. وهو ما ساعد أوروبا لاحقاً لإخضاع تلك الأمم الغنية والقوية كالصين والهند والدول الإسلامية. وذلك عبر النهب المباشر وغير المباشر.
1- النهب المباشر: مكّنت مناجم الفضة والذهب في القارة الأميركية بدءاً من القرن السادس عشر، إسبانيا والبرتغال آنذاك من قيام "الثورة السعرية" في أوروبا، وضخّ من خلالها أموال إلى القارة لم تكن تتصوّر الحصول عليها بأية وسيلة داخلية. كما خفضت من قيمة العملات التي تتعامل بها الأمم الأخرى محقّقة لأوروبا تفوّقاً مالياً غير مسبوق. وساهم النهب المباشر لثروات الشعوب الأخرى والعملة المجانية عبر العبودية بنقل ملايين الأفارقة إلى الأميركيّتين، قيمة إنتاجهم من السكر والقطن والتبغ وغيرها، والتي تقدّر بمعايير اليوم بترليونات الدولارات.
وتحوّلت الهند من مصدّر للسلع المصنّعة (27%) من التجارة العالمية في المنسوجات عام 1750 إلى مستورد لها (2% عام 1900). ويقدّر "انجس ماديسون" (الاقتصادي البريطاني) أنّ حصة الهند من الناتج العالمي انخفضت من 27% عام 1700 إلى 3% عام 1950. وتقدّر دراسات منشورة، أنّ بريطانيا استخرجت من الهند ما قيمته 45 ترليون دولار (بأسعار 2018) بين عامي 1765 و1938 عبر الفوائض التجارية والضرائب. ويمكن القياس بهذا الأمر على بقيّة المستعمرات. إذ كانت "التحويلات" من المستعمرات، كالأرباح والفوائد والرواتب والمدخرات إلى مراكز الإمبراطورية في الغرب تمثّل نسبة كبيرة من دخلها القومي، وتساهم مباشرة في تمويل عجزها وتمويل استثماراتها الصناعية والزراعية والعلمية.
2- النهب غير المباشر: فالنظم والهياكل غير المباشرة فاقت في نتائجها ما جلبته عملية النهب المباشر من مرابح للغرب. فبات أيّ تعامل بين الغرب وبقيّة العالم يحمل في طيّاته انتقال الثروات والحقوق والأموال إلى مراكز السيطرة العالمية. فبعد أن أُجبرت المستعمرات على أن تتخصّص في المواد الخام والسلع الأحادية (قطن، صوف، ماس، مطاط، بهارات، نفط، إلخ). وهي التي تباع بأسعار منخفضة نسبياً، لتستورد بقية المنتجات خصوصاً السلع المصنّعة من الدول الغنية بأسعار مرتفعة. وأصبح ارتفاع الأجور في الغرب وانخفاضها في بقية الأمم سبباً لانتقال القيم من الأخيرة إلى الأولى (التبادل اللامتكافئ، لأرغيري إيمانويل)، وكأنه تبادل بين مكوّنات اقتصادية طبيعية، وكأنّ كلّ طرف يأخذ حقّه الطبيعي.
فتمّ تفكيك الصناعات والحرف المحلية، وإعادة توجيه الزراعة والاستخراج للتصدير بدلاً من الاكتفاء الذاتي أو التصنيع المحلي. مما ولّد تبعيّة مستدامة تكرّر نفسها مع كلّ دورة اقتصادية.
وتمّ فرض أنظمة الدفع والضرائب ليحصل المستعمر على مداخيل إضافية كنظام الريع في الهند البريطانية. وفرضها ضرائب ثابتة وعالية على الأراضي لإرغام المزارعين على بيع محاصيلهم بأسعار منخفضة لتسديد الديون. أو ضرائب تفرض على الأفراد كضريبة الرأس في أفريقيا. الواجبة الدفع بالعملات الأوروبية، التي لا يمكن الحصول عليها إلّا بالعمل بأجور زهيدة في مزارع أو مناجم الأوروبيين. ناهيك عن احتكار تجارة السلع كما كانت تفعل شركة الهند الشرقية فيما يخصّ الشاي أو القطن أو التبغ، وهلمّ جرّا.
الجغرافيا وخارطة الأرض: لم يقتصر النهب غير المباشر على الاقتصاد بل شمل جميع مجالات الحياة. بهدف زرع وعي شمولي مضلّل يقول بأنّ الغرب هو أبو الحضارة، وراعيها وقائدها. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى. وإليكم نموذجاً بسيطاً لا يلفت الانتباه عادة، لكنه انتشر في الوعي والعقول مكرّساً الهيمنة. وصار من الصعب التخلّص منه، يتعلّق بالجغرافيا والخرائط. فالخرائط التي نستخدمها حالياً هي نتاج الخريطة التي وضعها "بطليموس" اليوناني في القرن الثاني الميلادي، والتي تضع أوروبا في الشمال وبقيّة القارات المعروفة آنذاك في الجنوب.
وكذلك الخرائط التي وضعها الجغرافي "جيرارد ميركانور" في 1569 والتي تستند للإسقاط الأسطواني على الجغرافيات. فبالغت في إظهار حجم أوروبا وأميركا الشمالية على حساب أفريقيا وأميركا الجنوبية. وبدت جزيرة غرينلاند مثلاً بحجم أفريقيا، رغم تفوّق حجم الأخيرة 14 مرّة عن حجم الأولى. وجعل خط الطول الرئيسي يمرّ بـ "غرينيتش" في لندن. فجعل الإمبراطورية البريطانية وكأنّها مركز الزمن والكون. ووضع أيضاً على غرار ما فعله "بطليموس" أوروبا في الأعلى، مع أنّ الاتجاه "فوق" غير موجود في الفضاء. ولا يوجد في الكون المعروف اتجاه مطلق يحدّد اتجاهات مطلقة كالشمال أو الأعلى.
فالبشر هم من يضعون الأحداثيات لتيسير أمورهم وفق ظواهر طبيعية تختلف من حالة لأخرى. وتأكيد اختيار الشمال لأوروبا يوحي بالتقدّم والغنى والعقل والتحضّر. ليوحي الجنوب بالتخلّف والفقر والهمجية والعاطفية. فنحن لسنا أمام تسميات جغرافية مجرّدة، بل تسلسل هرمي قيمي تمّ تسويقه عبر التعليم والإعلام والأدب الاستعماري.
مقابل هذه الخرائط الاستعمارية هناك خرائط تُغيّب ولا تُدرّس، إلّا في بعض الجامعات حديثاً. وكمثال خريطة "غال-بيترز" (إشارة لـخرائط "جيمس غال" عام 1855، و"أرنو بيترز" (1916-2002) التي تعطي المساحات الحقيقية للقارات. فتظهر أفريقيا كبيرة وأوروبا صغيرة نسبياً على حقيقتهما.
كما لا تدرس خرائط الأقدمين. التي كانت تضع الجنوب في الأعلى كخرائط الإدريسي (1154م)، أو الخريطة الصينية القديمة التي تضع الإمبراطورية الوسطى في المركز.
ففي الفضاء لا يوجد فوق أو تحت. ويمكن لأيّة نقطة على الكرة الأرضية أن تكون في الأعلى أو المركز. فنظام الهيمنة حوّل نفسه إلى الشمال، كاستعارة للسيطرة. واستخدم العلم والتقنية لتقديم هذا على أنه طبيعي ومحايد وتقني. وهو ما يجعل البرمجة الذهنية تعمل ذاتياً لصالح تفوّقه. فتظهر مصطلحات تؤثّر ابتداءً على مفاهيم التحضّر والتخلّف، مثل العالم الأول مقابل العالم الثالث. والهجرة من الجنوب إلى الشمال كسيل يتدفّق من الأسفل إلى الأعلى. أو في أدبيات التنمية التي تعامل الشمال كالنموذج الذي على الجنوب محاكاته.
رابعاً: المستعمرات تثأر لنفسها:
إنّ تآكل أسس الحضارة الغربية الإحلالية، الاستعمارية، العنصرية والهمجية سيقود حتماً لانخراط المزيد من شعوب العالم بما في ذلك في الغرب نفسه للوقوف في وجه استمرار هذه المنظومة. فالمستعمرات التي كانت يوماً مصدراً لغنى الحضارة الغربية بدأت بأخذ حصص متزايدة من الكعكة العالمية. أي بدأت باسترداد بعض حقوقها وأصولها. والتي يرى فيها الرئيس "ترامب" سرقة تقوم بها هذه الشعوب والدول. فبات يفرض عليها المزيد من التعريفات الجمركية، والعقوبات وشتى الإجراءات التعسّفية، بما في ذلك التآمر ومساعي الغزو والضربات العسكرية.
وهكذا تحوّل السكان من مهاجرين وعبيد سابقين ومصدر غنى وقوة للنظام الاستعماري لقوى ناقمة، داخل بلدان المنظومة وخارجها. قوى تكلّف المنظومة، ليس اقتصادياً فقط، بل وعياً واجتماعاً وتاريخياً بالمسائلة عن جرائمه أيضاً. لهذا تصاعدت تهديدات التهجير، وتنفيذ أحكام الإعدام، ومنع ازدواج الجنسية، وغيرها من أمور كانت تتفاخر بها الحضارة الغربية كمنجزات لها.
وتحوّلت أنماط الاستهلاك المرتفعة، والرفاه غير المسبوقة التي كانت عاملاً في تخدير وعي شعوبهم، وصوراً أشبه بالسراب لبقيّة الشعوب، إلى أعباء تصعب تغطيتها مع تراجع الموارد الخارجية، وازدياد اللاعدالة في توزيع الثروات. فنصف الثروة الأميركية تتركّز بيد 1% من السكان. فالأسعار باتت ترتفع أسرع من المداخيل بالنسبة للنصف الأدنى من المجتمع. لتتفجّر شتى أنواع التناقضات والانقسامات والتمرّدات، ضدّ النظام وأسسه وحضارته من داخله، وقسْ على ذلك لبقيّة بلدان المنظومة ومنها الكيان الصهيوني.
وهذه إشارات سريعة لتراجع الخط البياني الاقتصادي والاستراتيجي الأميركي، وهو قد يكون حالاً أفضل مما تعاني منه الدول الغربية الأخرى أو الكيان الصهيوني. مع التأكيد مرة أخرى أنّ ذلك لا يعني أنهم باتوا دولاً ضعيفة. فهم ما زالوا حكّام العالم، والقوة المهاجمة فيه، اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً ومالياً وإعلامياً وسياسياً. فكلامنا هو عن ديناميكيات السيرورة التاريخية، وما نتوقّع أن تؤول إليه الأمور، وليس وصفاً للواقع الساكن الراهن:
- تراجع الناتج الوطني الإجمالي الأميركي من المجموع العالمي، إذ كان 40% في 1960، وتراجع عام 1969 إلى 38% بمبلغ مقداره 1.018 ترليون دولار ومعدّل نمو هو 3.1%، ثمّ إلى 26% في 1990، وبلغ 24% في 2019. وهو الآن بحدود 25-26%.
- رغم دور الدولار المهيمن في المعاملات المالية الدولية لكنّ دوره يتراجع باستمرار. إذ كان يمثّل 71.13% عام 2000 من الاحتياطات الدولية، وأصبح يمثّل 62.14% عام 2010، ثم 58.92% عام 2020، ومؤخّراً 57.80% في عام 2024.
- تراجع حجم التجارة الأميركية من حجم التجارة العالمية من 15% في عام 1970 إلى 9-10% في 2019
- بات قطاع الخدمات (المنتج للمال، وليس المنتج للسلع) هو القطاع الرئيسي في تكوين الناتج الوطني الإجمالي الأميركي بنسبة 80.2% من الناتج الوطني الإجمالي (بحسب تقديرات عام 2017). لتشكّل الزراعة 0.9% والصناعة 18.9% فقط. ففي عام 2021 مثّلت القطاعات المنتجة الحقيقية 27.5% من الناتج الوطني في الصين، و25.5% في كوريا الجنوبية، و20.9% في اليابان بينما كانت 10.2% في الولايات المتحدة الأميركية و9% في فرنسا، و8.7% في المملكة المتحدة.
- ازدادت ديون الحكومة الأميركية من 55.5% من الناتج الوطني الإجمالي عام 2002 لتصل إلى 122.4% من الناتج الوطني الإجمالي في عام 2025 بواقع 38 ترليون دولار. وتجاوزت الفوائد السنوية التي تدفعها الحكومة ترليون دولار، بمعدل 3 مليارات دولار يومياً. وتستهلك 13% من الموازنة الفيدرالية الحالية. وسط قلق عالمي متزايد من أنّ القدرة المالية الأميركية أو غيرها من الدول المدينة ستعجز يوماً عن دفع هذه الفوائد، مهدّدة بانهيار شبه كامل أو كامل.
- لا شكّ أنّ تقدّماً كبيراً يحصل في البلدان الأخرى خصوصاً بلدان مجموعة "بريكس" و"شنغهاي" ودول المستعمرات القديمة، من حيث عدد الجامعات والابتكارات وتقدّم العلوم والصناعات وسلاسل التوريد ومصادر الطاقة والمنتجات الصناعية والتقنية والزراعية المتزايدة باستمرار. وكذلك القدرات العسكرية التي باتت تنافس، وأحياناً تتفوّق على القدرات الأميركية أو الغربية (روسيا والصين، أو تركيا وإيران، إلخ) في خط بياني واضح الصعود. أو المقاومة كما في غزة ولبنان واليمن وغيرها.
- في هجومها المضادّ لاستعادة المبادرة وتأكيد سيطرتها العالمية، فشلت الولايات المتحدة وأوروبا وحلف الناتو من تفكيك روسيا، وعدد آخر من الدول. فتحوّلت الحرب الأوكرانية إلى مصيدة لكشف ضعف النظام الغربي، وأصبحت عاملاً مهمّاً لتفكيك الدول الأوروبية من جهة ومن جهة أخرى العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا والناتو ككلّ.
كما كشفت حرب الـ 12 يوماً مع إيران عن ضعف الإرادة على بدل الدماء في حرب مكلفة طويلة لم تعد الولايات المتحدة ولا حلفاؤها ـــــ بما في ذلك الكيان الصهيوني ـــــ قادرة على خوضها. والاستعاضة عن ذلك بالحروب الخاطفة والجوية والاستخباراتية والاغتيالات والألاعيب السياسية.
- كشف طوفان الأقصى هشاشة النظام الدولي، وهشاشة الكيان الصهيوني بالذات. إذ مهما بلغ التوحّش وأعمال الإبادة وتدمير البنى وقتل البشر من أطفال ونساء وشيوخ، لكنه يعبّر عن عجز الكيان الصهيوني وداعميه من تحرير الأسرى في قطاع غزة البالغة مساحتها نحو 360 كم2، ومن احتلاله والبقاء فيه والقضاء على المقاومة وأنفاقها ومسلّحيها وبنيتها الجماهيرية. والأمر نفسه في لبنان واليمن والعراق وفي الحرب على الجمهورية الإسلامية.
فشعوب العالم كلّها انتفضت ضدّهم وانقلبت موازين القوى وباتت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في عزلة خانقة، تلاحقهم أحكام بجرائم الإبادة وجرائم الحرب صادرة من المحاكم ذاتها التي وضعها النظام الدولي لمحاكمة مسؤولي ما يسمّى بدول العالم الثالث.
- National Security Strategy of the United States of America, November 2025: كشفت الاستراتيجية الوطنية للأمن الوطني الأميركي في تشرين الثاني/نوفمبر 2025 أنها في الحقيقة استراتيجية تراجعية وانكفائية رغم تغطيتها بمسمّيات ومفردات هجومية.
فادّعاء أنّ بالإمكان السيطرة على العالم من وراء الستار، وعن بعد ومن الجو وعبر السياسة والعقوبات والاغتيالات لا ينقل التراجع والانهزام في الميدان إلى انتصارات سياسية. وتغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب لا ينقل نزعة التراجع والانسحاب ليحوّلها إلى هجوم ونجاح. والدعوة لمشاريع كبرى عجزوا عن تحقيقها عندما كانوا بأوج قوّتهم. فدعوات الرئيس "ترامب" لضمّ كندا وغرينلاند وبنما، والهجوم على فنزويلا، والضغط لإجراء تغييرات في الأنظمة في الكاريبي وأميركا اللاتينية تشير كلّها إلى العودة إلى سياسة الرئيس " جيمس مونرو" (1823) لتخفيف تحمّل الأعباء في الحاكمية العالمية، وزيادتها في المناطق الحيوية المحيطة جغرافياً بالولايات المتحدة الأميركية.
خامساً: هل هناك توقيتات لمعرفة مصير نظام الهيمنة العالمي؟
عندما نقول بتراجع الغرب ومعه الكيان الصهيوني، فهل هناك تصوّرات عن توقيتات ذلك. ورغم اختلاف الحضارة الغربية وتوغّلها العميق في نسيج المجتمعات الأخرى، وفي طبيعة المؤسسات الدولية مما يجعل الموضوع معقّداً جداً ويصعب تبسيطه وإعطاء توقيتات مقبولة. لكننا سنستعرض ما مرّت به إمبراطوريات وحضارات سابقة، وكم أخذت من الوقت بين فترات ظهور عوامل تراجعها وانهيارها. عسى أن يساعدنا ذلك، ولو لتقديم صورة يمكن للوعي العامّ البناء عليها تصوّراً مفاهيمياً وليس بالضرورة تاريخاً وتوقيتاً.
· الإمبراطورية الرومانية الغربية: بدأت علامات الضعف عليها في منتصف القرن الثالث الميلادي (أزمة 235-284) متجلّية بحروب أهلية متتالية، وأزمات مالية، وغزوات خارجية، وانفصال مقاطعات كإمبراطورية "الغال" و"مملكة تدمر" والتي استمرت نحو 200 عام.
· الخلافة العباسية: بدأت الانقسامات بعد وفاة هارون الرشيد (809م.). وبرزت الانقسامات والصراعات بين القادة العسكريين الأتراك (منتصف القرن التاسع الميلادي)، واستقلال مصر والمغرب وخرسان، وثورات الزنج والقرامطة، وسقوط الخلافة بيد البويهيين (945م.) وسقوط بغداد بيد المغول (1258م). أي أنّ العملية استغرقت نحو 250 سنة.
· في الصين تراوحت المدد. فبالنسبة لسلالة "هان الشرقية" 36 سنة بثورة العمائم الصفراء، أو سلالة "تانغ" بتمرّد "آن لوشان" نحو 150 سنة، أو سلالة "مينغ" (80-100 سنة) بسبب الضعف الإداري والمشكلات المالية لتنهار في 1644.
- المقاربة التاريخية: كيف نستطيع تقييم مسارات الحضارة الغربية، مع قبول حقيقة ظهور علامات التفكّك والضعف فيها:
قد يتعذّر قياس القدرات الزمنية لتفكّك الإمبراطوريات، لكن يمكن رصد أنماط عامة انطلاقاً من الأمثلة أعلاه. فالمدّة النموذجية بين بداية علامات الضعف الواضحة والسقوط النهائي تتراوح بين 150-300 سنة بحسب العوامل الآتية على الأقل:
1. مرونة الأنظمة وصلابة البنى والتحدّيات الخارجية.
2. عامل السرعة في العصر الحديث: فما كان يستغرق أشهراً أصبح يجري بلحظات أو أزمان أسرع بكثير. كما تؤكّد نظريات "كارل ياسبرس" الفيلسوف وعالم النفس الألماني السويسري (1883-1969) بأنّ التاريخ يتسارع بشكل أسي وليس خطي.
3. العولمة: التي تساعد على انتشار الأزمات بسرعة
4. التقنيات المتسارعة: وأثرها في البنى والهيكليات. فالأنظمة الحديثة أكثر تعقيداً لكن أكثر هشاشة.
5. خلافاً لما كان يجري في القرون السابقة، فالإرهاق والتفكّك الذي كان يصيب القوة العظمى ـــــ أو القوى العظمى العالمية المهيمنة ـــــ كانت تحلّ مكانها قوة أو قوى عظمى من طبيعة المنظومة ذاتها مع تحسينات وإصلاحات تطوّر النظام ولا تقود به إلى الهاوية. فحلّ الإنكليز والفرنسيون والألمان واليابانيون والهولنديون محلّ الإسبان والبرتغاليين. وحلّت الولايات المتحدة محلّ الإنكليز والفرنسيين. أما اليوم فإنّ ما يحلّ هي قوى "البريكس" و"شنغهاي" وقوى ودول كثيرة تتماهى معها. وهي قوى من خارج منظومة الحضارة الغربية وباتت تطرح مسارات ومفاهيم وتنظيمات وعلاقات دولية تختلف جذرياً عمّا تطرحه المنظومة والحضارة الغربية.
6. ظهرت ملامح الضعف في النظام السوفياتي ذي الأبعاد العالمية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. إذ كان الاتحاد دولة واحدة، وأصبح اليوم 15 دولة مستقلة بأنظمة مختلفة. تقف معه 8 دول خارج الاتحاد السوفياتي في حلف وارسو. إضافة إلى عشرات الدول الأخرى التي كانت تتبنّى الماركسية اللينية أو الاشتراكية، أو المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي.
ناهيك عن الأحزاب والمنظّمات والأفكار والثقافات التي كانت سائدة في كلّ أنحاء العالم، والتي تراجعت خلال فترة قصيرة. إضافة إلى قدرات عسكرية هائلة قد تتفوّق على حلف الأطلسي، وامتلاك اقتصاديات وقدرات إنتاجية عظيمة تقف الأولى في الكثير من السلع والمنتجات. ففي عام 1969 مثّل الاتحاد السوفياتي بمفرده 14.31% من الاقتصاد العالمي، لينهار إلى 3-4% من الناتج الوطني الإجمالي العالمي عام 1990.
وعليه كان يمكن للاتحاد السوفياتي ومنظومته القوية والشبكة الواسعة لأفكاره ومفاهيمه أن يأخذ من 50-100 سنة بحسب المعايير القديمة لتجارب الانهيار. لكنها أخذت من بداية إصلاحات "البيريسترويكا" إلى الانهيار 6 سنوات فقط. فتأمّل!!
وهي فترة حكم غورباتشوف في 1985-1991. فالاتحاد السوفياتي الذي بنى وحدته مع جمهورياته الاشتراكية السوفياتية الأخرى خلال نحو 7 عقود، تفكّك خلال 6 سنوات فقط، فكم من الوقت قد تستغرق عملية تفكّك المنظومة الغربية، بعد توسيع الناتو، ليضمّ دول أوروبا الشرقية، أي ما لا يتعدّى 2-3 عقود. ذلك إن صحت تقديراتنا أنّ المنظومة الغربية تعيش زمن التراجع والتفكّك لا زمن التقدّم والصعود. ولأولئك الذين يستخفّون عادة بمثل هذه القراءات، نذكّر برسالة الإمام الخميني طاب ثراه إلى غورباتشوف عام 1989 مؤكّداً له أنّ الاتحاد السوفياتي سيتفكّك وينصحه بعدم التوجّه غرباً. فاستهزأ من استهزأ، وسخر من سخر. لكنّ الإمام قُدّس سرّه الشريف، هو الذي أصاب في نهاية المطاف.
7. لا يمكن وضع استنتاجات رياضية، لكن يمكن الكلام عن تغييرات بطيئة أو متوسطة أو سريعة.
أ- فالمرونة والبنى والمؤسسات الراسخة كالأمم المتحدة، أو صندوق النقد، أو هيمنة الدولار المنتشرة بشكل واسع بين الشعوب، وعوامل القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والسياسية والإعلامية تقود لتوقّعات بطيئة (30-50 عاماً).
ب- تنبّؤات سريعة (5-15 سنة) سببها اعتماد المنظومة الغربية على أسواق البورصة والأوراق المالية والأسهم والأصول الوهميّة، أو التفوّق الجوي والتي كلّها مرتكزات قد تنهار بسرعة بانهيار إحدى مرتكزاتها الأساسية. لتقابل ذلك سرعة تعلّم القوى البديلة والمقاومة لعوامل السرعة والتكنولوجيا والتقدّم في القطاعات الاقتصادية الحقيقية الصناعية والزراعية، وسلاسل التوريد والتجارة، والتعامل مع الثروات الطبيعية، وامتلاك قدرات عسكرية أكثر تطوّراً، والهندسة العكسية لمواجهة التفوّق الجوي بالمسيّرات والصواريخ الباليستية، إلخ.
ج- والمتوسطة هي ما بين الاثنين.
سادساً: تقديرات موقف لتقدّم المستعمرات السابقة وتراجع النظام الغربي
أ- الفراغ: ما لم تتصدَّ مجموعة ونظام آخر لسدّ الفراغ (الفراغات) الذي يتركه تراجع النظام الغربي سواء بشكل شامل أو جزئي، فإنّ الفراغ لن يولّد سوى ازدياد الصراعات والمنازعات المحلية والإقليمية.
ومع تخلخل الوضع الدولي واختياره لسقوف قد تحدّ من حركته وفاعليّته، سيزداد نفوذ القوى الإقليمية الموالية أو المعادية له.
فالصراعات على المستويات المحلية ستتطلّب تسويات لن تقوم بها القوى المتصارعة نفسها، وتتطلّب تدخّل قوى إقليمية أكثر قدرة. كما في سوريا مثلاً ودور مصر وتركيا والسعودية وروسيا وإيران. أو في المنطقة ودور دولها في مواجهة مخطّطات الكيان الصهيوني.
وأحياناً سيتطلّب الأمر تدخّل قوى دولية أكبر، كدور الولايات المتحدة بين تركيا والكيان الصهيوني في سوريا، أو كدور الصين في التقريب بين إيران والسعودية.
صراعات أو تسويات تسعى لصياغة المواقع الجديدة لكلّ دولة وأمة في النظام الإقليمي والدولي الجديد، الذي لن يكون مجرّد عالم متعدّد الأقطاب وكأنه يعيد التجارب الماضية، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. بل أساسه عالم متعدّد الحضارات، بحسب كلّ التقديرات المتوقّعة.
ب- عندما تنهار الإمبراطوريات عموماً لا تتحوّل إلى دولة كبرى. وقد رأينا كيف تحوّل الاتحاد السوفياتي من دولة عظمى إلى دولة عاجزة عن دفع رواتب موظفيها لفترات طويلة من الزمن.
فمما لا شكّ فيه أنّ الولايات المتحدة والغرب سينهضان من جديد، لكن على أسس جديدة تختلف نوعاً ومضموناً عن الأسس القائمة عليها حالياً. لهذا نخالف من يقول إنّ الولايات المتحدة إذا ما استمرّ تراجعها ستتحوّل إلى دول كبرى وليس دولة عظمى. خصوصاً في عالم له حسابات ومحاسبات وتعويضات وثارات وحقوق مسلوبة، لن تسمح لها إلا أن تكون دولة كبقيّة الدول.
ج- سيبقى الكيان، شأنه شأن حلفائه، مستغلّاً ضعف الأنظمة المحيطة به، وتكلّس قناعاتها على حقائق الماضي، وموازين القوى السابقة. مما يسمح له بممارسة وحشيته وسيطرته الجوية وجاسوسيته وإعلامه واغتيالاته وخروجه عن أيّ قانون عرفي أو أخلاقي أو دولي عدا قوانينه ومشاريعه وسعيه لفرض شروطه (لا لدولة فلسطينية، "إسرائيل الكبرى" والمطامع الإقليمية والسيطرة على المنطقة، والحدود الآمنة من طرف واحد، إلخ).
وهكذا لا خشية على المقاومة وسلاحها وبيئتها. إذ سيبقى الاحتلال والعدوان والتوحّش الشمولي، هو المشرعن لوجود المقاومة، والمحفّز لانتشارها وتصاعد مواقفها وفعّالياتها. لتنتقل من مستوى المنظّمات والفصائل إلى مستوى جماهيري شامل، بل إلى مستويات رسمية.
فعملية الإنكار التي يمارسها الكيان في فشله المتكرّر، وتصاعد أعمال المقاومة في فلسطين وخارجها، وعدم نجاحه في غزة ولبنان واليمن وإيران، تقود به لتبنّي المزيد من السياسات المتطرّفة والمغالية، لتمسّ أطرافاً لها مواقف معادية للمقاومة أو وسطيّة. مما يربك ارتباطاته الخارجية ويبعده عن أقرب حلفائه، ويمزّق جبهته الداخلية ويصعّد من أزماته وانقساماته، وهو ما يسرّع ـــــ بحسب قناعاتنا ـــــ في تفكّك مشروعه بمجمله.
لهذا نقول إنّ النصر ليس ببعيد، بل هو حتميّ، وفق المعطيات والحقائق الجارية.