28/07/2025
تقاریر 78 قراءة
إيران والصمود في وجه العواصف
.jpg)
الاشراق
الاشراق | متابعة.
في الرابع والعشرين من حزيران، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن وقف إطلاق النار بين إيران والكيان الصهيوني، بعد قبول الطرفين الوساطة الأمريكية والقطرية. جاء هذا الإعلان بعد صمت إيران على ممارستها حقها في قصف قاعدة العديد الأمريكية في قطر، تلك القاعدة التي أنشئت بعد الحرب العراقية الإيرانية والحرب على العراق أواخر القرن الماضي.
فقد قصف الحرس الثوري الإيراني بالصواريخ هذه القاعدة ردًا على قصف أمريكا للمفاعلات النووية الإيرانية، وبغض النظر عن نتائج القصف وما يقال حوله، إلا أن الأمر يتعلق في جوهره بكرامة إيران الوطنية، وكذلك بدولة عظمى كأمريكا، حيث لا يجرؤ أحد في هذا العالم على إطلاق طلقة واحدة تجاهها، فكيف بقصفها بالصواريخ الباليستية.
انتهت إذًا هذه الجولة من القتال، لكنها لم تُنهِ المعركة مع إسرائيل، لأسباب أبرزها الموقف الإيراني الديني من وجود إسرائيل واحتلالها لأرض فلسطين وتشريد أهلها منها. أما الجانب الصهيوني، فهو مقتنع تمامًا بأن إيران، بمنطلقاتها، تشكل تهديدًا وجوديًا لها في المنطقة، ناهيك عن أنه في حال امتلاكها للردع النووي، فإن حيازتها لهذا السلاح تعني أن إيران صارت دولة محصنة لا يجرؤ أحد على المساس بها، وستتحول عندها إلى دولة مركزية ورافعة للدول العربية والإسلامية، بعدما كانت رافعة لمحور المقاومة، الذي ما يزال يقاتل العدو منذ تدشينه عبر وحدة الساحات وتقاطع بنادق المقاومة على أرض فلسطين. وقد تجسد هذا الدعم في معركة طوفان الأقصى منذ السابع من أكتوبر 2023، عبر حزب الله وأنصار الله والحشد الشعبي، الذين قدموا إسنادًا ميدانيًا واضحًا للمقاومة، بينما يواصل أنصار الله دورهم من أبعد نقطة اشتباك مع العدو الصهيوني.
معركة الإثني عشر يومًا لم تكن معركة عادية؛ إذ قاتلت فيها إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة، ولهذا فإن خطط القتال والعدوان على إيران وُضعت منذ عهد إيهود باراك في منتصف التسعينيات، وصولًا إلى حكومة اليمين المتطرف بمتابعة حثيثة من قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، الصهيوني "مايك كوريلا"، الذي سعى لتنفيذ المخطط الأمريكي-الإسرائيلي قبل تقاعده في سبتمبر القادم.
ورغم أننا لسنا بصدد المقارنة العسكرية المباشرة في حجم الضربات المتبادلة، إلا أن إيران، رغم هول الصدمة والتفوق الجوي الإسرائيلي والأمريكي، واغتيال قيادات الجيش والحرس الثوري والاستخبارات وقائد سلاح الجو-فضاء (قسم السيطرة والتحكم)، وضرب منظومات الدفاع الجوي مع بدء الهجوم، وهو ما أحدث إرباكًا كبيرًا في خطط الجمهورية الإسلامية الدفاعية والهجومية الصاروخية الردعية من الأساس، تمكنت من استعادة توازنها بعد أربع عشرة ساعة بالضبط، وبدأت عمليات الإطلاق المركز وعدّلت من خططها العملياتية بفعل السيطرة الجوية الصهيونية. ومع ذلك، كان المراقبون والعارفون بالشأن الإيراني على يقين بأن حرب الاستنزاف التي تتقنها إيران ستكون أداة إنهاك قاتلة للعدو ووسيلة لإرهاق جبهته الداخلية، التي بدأت تئن تحت وطأة صواريخ الحرس الثوري، ولم تكن لتتحمل استمرار المعركة بفعل الخسائر الكبيرة التي وثقتها الكاميرات، رغم محاولات بن غفير وسموتريتش منع ظهورها للرأي العام. ومع إلحاق ضرر كبير بالمفاعلات النووية والبنية التحتية الإيرانية، إلا أن نسبة الدمار في الكيان الصهيوني كانت أكبر وأكثر تأثيرًا على المجتمع الصهيوني، منها على المجتمع الإيراني. فبلاد فارس - التي سُميت بذلك تاريخيًا لأن مؤسسها الأول رزق ببضعة عشر فارسًا امتطوا الخيل فكانوا فرسانًا شجعانًا، فسُميت ببلاد الفارس ثم بلاد فارس - تجيد معركة الصبر والاستنزاف.
منذ البداية، كانت إسرائيل تراهن على تدخل ترامب، لكن أمريكا ترددت كثيرًا لحسابات معقدة، أبرزها إدراكها لرد الفعل الإيراني طويل الأمد، وليس فقط الميداني. فأمريكا تدرك أن إيران ستتخذ خطوات استراتيجية بعد الهجوم عليها، ليس أقلها مقاطعة هيئة الطاقة الذرية، وإغلاق مضيق هرمز، واتخاذ قرارات تخص البرنامج النووي لحماية الشعب الإيراني ومصالحه القومية، أي بمعنى تغيير العقيدة النووية الإيرانية. لكن الذي أجبر واشنطن على التدخل هو الوضع الذي وصلت إليه إسرائيل خلال 12 يوم قتال فقط، من الهجرة والترحال والدمار الواسع، حتى أصبح المشهد نسخة مكررة من دمار قطاع غزة، مع فقدان إسرائيل لأمنها وقوة ردعها وكسر هيبتها التي بددتها صواريخ خورمشهر في بات يام وتل أبيب الكبرى وحيفا وبئر السبع. لذلك، تدخلت أمريكا بسرعة لتدمر فوردو، وتبدأ بعدها مباشرة بالسعي إلى وقف القتال، رغم قصف إيران لقاعدة العديد، في محاولة لإنقاذ إسرائيل من حرب استنزاف تتقنها إيران وشعبها وقواتها المسلحة.
خيرًا فعلت إيران عندما قبلت وقف القتال في تلك اللحظة، وهي في موقع الفعل الثقيل، بثقل صواريخ "خورمشهر العنقودية"، و"الفتاح"، و"خيبر شكن"، والمسيرات من طراز شاهد وغزة التي بلغت، حسب تقديرات إعلامية قريبة من طهران، حوالي ألف مسيرة هجومية خلال 12 يومًا من القتال. وقد أدركت إيران حينها الحكمة القائلة: "الضربة التي لا تقتلني تزيدني قوة وبأسًا". تم ذلك، وهي تراقب عن كثب الأجندة الصهيونية والغربية المعلنة التي انطلق من أجلها العدوان، والمتمثلة في:
1- تدمير المشروع النووي الإيراني.
2- تدمير البرنامج الباليستي.
3- خلق حالة تمرد داخلي بعد إضعاف النظام، تمهيدًا لإسقاطه.
4- إلغاء الدور الإيراني الإقليمي وضرب فكرة محور المقاومة.
5- قطع صلات إيران بالقضية الفلسطينية.
6- دفع إيران إلى الاعتدال السياسي واحتوائها إقليميًا ودوليًا.
7- تحويل إيران إلى دولة فاشلة مستباحة الأجواء والسيادة، تُعربد في سمائها الطائرات الإسرائيلية كما هو الحال في سوريا ولبنان وغزة.
وهي أسباب كافية لاستمرار العدوان، كما حصل مع العراق في عهد صدام حسين. وعندما فوجئ العدو بقدرة إيران على قصف المدن والمواقع الصهيونية الاستراتيجية - الأمنية والعسكرية، ومقر وزارة الدفاع والاستخبارات، ومراكز الأبحاث النووية والبيولوجية، ومراكز التفوق التكنولوجي في بئر السبع - أدرك أن الحرب مع إيران معقدة، فبدأ يبحث عن مخرج، وتكررت تصريحات قادته بأنهم حققوا أهدافهم من الحرب بعد أن ورّط نتنياهو ترامب في قصف مفاعلات نطنز وأصفهان وفوردو. وما تلا ذلك من ردود فعل أمريكية خاصة بعد إصرار إيران على قصف قاعدة العديد في قطر، ودعوة مجلس الشورى لإغلاق مضيق هرمز، وما لهذا القرار من تداعيات على سوق التجارة الدولية للنفط والغاز، وتأثيره المباشر على المستهلك الغربي والأمريكي.
ناهيك عن الرأي العام الأمريكي، حيث أظهرت استطلاعات للرأي في الولايات المتحدة أن غالبية الأمريكيين، تتراوح بين 55% و60%، يعارضون خوض حرب مع إيران، وفقًا لنتائج استطلاعات رويترز/إبسوس وغالوب ، وهو ما ساهم في انخفاض شعبية الرئيس ترامب إلى أدنى مستوياتها منذ توليه الرئاسة، وخوفه من فقدان الأغلبية الجمهورية في الانتخابات النصفية القادمة. كل هذه الأسباب دفعت ترامب إلى فرض وقف إطلاق النار وبدء التفاوض مع إيران عبر الوساطة القطرية، حتى قبل أن يُكمل نتنياهو إبلاغ كل مكونات صنع القرار في إسرائيل.
ومن الواضح أن الحديث عن تفاهمات لوقف القتال مع إيران يعني أن المعركة لم تنتهِ بانتهاء جولة القتال، بل أبقت الباب مفتوحًا أمام احتمالية تكرار الضربات المتبادلة، خاصة في ظل الغموض حول مصير كمية الـ 400 ك التي ما زالت مجهولة.
لقد توحدت الجبهة الداخلية في إيران، على عكس ما سعى إليه الأعداء، الذين راهنوا على تفتيت الصف الوطني وخلق حالة تمرد وسحب الثقة من نظام الجمهورية، تمهيدًا لاستبداله بنظام تابع للغرب، على غرار دول الاعتدال العربي ونظام الشاه السابق. ولهذا، شكلت جبهة العملاء والمنافقين إحدى الأدوات المهمة في إرهاق الدولة، وأصبحت عين إسرائيل ويدها في تنفيذ الاغتيالات للعلماء وقادة الأركان العسكرية. وقد فاجأ ملف الاختراق الداخلي الجميع بخطورته، حين أعلنت أجهزة الأمن الإيرانية في 23 حزيران أنها وضعت يدها على عشرات العملاء ومصانع إنتاج المسيرات، مع تقديرات إعلامية تتحدث عن ضبط آلاف المسيرات دون تأكيد رسمي قاطع.
لذلك، كان قبول إيران بوقف القتال خطوة ملحّة للحفاظ على مكتسبات الثورة ونظام الجمهورية الإسلامية، ولترميم قدراتها، ومعالجة مكامن الضعف، وتعزيز عناصر القوة، لاستكمال دورها في خدمة مصالح الشعب الإيراني ودورها كدولة كبيرة في المنطقة.
إيران تدرك اليوم أن أمريكا وإسرائيل لن تسمحا لها بالعودة إلى التخصيب العلني كما كان في السابق، لذلك من المتوقع أن تتجه نحو العمل السري في المجال النووي، على غرار باكستان وكوريا الشمالية، خاصة بعد هذا العدوان الأمريكي الإسرائيلي، حيث لم يعد أمام إيران سوى حماية مقدرات شعبها، ومصالحه، وكرامته الوطنية.
د. حسين البطش - مسؤول العلاقات الاعلامية لحركة الجهاد في فلسطين _غزة